الثلاثاء، 27 مارس 2012

الجنسية المثلية بين الوصم والتفاخر


دكتور \ محمد المهدي
رئيس قسم الطب النفسي
جامعة الأزهر – فرع دمياط

هناك أعداد متزايدة من حالات الجنسية المثلية (أو ما يطلق عليه الشذوذ الجنسى) ظهرت وترعرعت وعبرت عن نفسها من خلال مواقع الإنترنت وغرف الدردشة والمدونات , وأصبحت تأتى إلينا مئات الإستشارات تصور تنويعات هائلة للسلوك الجنسى فى عصر ما بعد الإنترنت والقنوات الفضائية المفتوحة منها والمفضوحة , ولم يكن يخطر ببالنا وجود هذا العدد الكبير من المثليين فى مجتمعاتنا وفى غيرها , ولم نكن نتصور علو صوتهم وحماسهم إلى هذه الدرجة , فعلى قدر ما يلقونه من وصم ونبذ فى المجتمع على قدر ما يبالغون هم فى الإستعراء والتباهى والتفاخر بما يفعلون . وقد بعث أحدهم بمجموعة من الأسئلة والتساؤلات ربما من قبيل حب المعرفة , أو من قبيل توصيل رسائل معينة للمجتمع , أو من قبيل التحدى للقوانين والأعراف والأخلاقيات السائدة والمضادة لميولهم , المهم أنها كلها تستحق التوقف والتأمل والمراجعة فى عصر لم يعد يكفى فيه الزجر والنهى والكف .

 وأسوق إليك أيها القارئ العزيز بعضا من هذه التساؤلات : هل لم تعرف البشرية الجنسية المثلية قبل قوم لوط ؟ وهل كانت زوجة لوط سحاقية ؟ .. وهل تسمية السحاق لها علاقة بالنبى إسحاق ؟ ... وما ذنب المثليين فى مشاعر وغرائز وجدوها فى أنفسهم تجاه أمثالهم ولم يجدوا أى مشاعر تجاه الجنس المقابل ؟ .. ولماذا يعيشون محرومين من تحقيق رغباتهم الحقيقية تجاه من يحبون ثم يرغمون على علاقات بجنس لايجدون فى أنفسهم أى رغبة أو ميل تجاهه لا لشئ إلا لإرضاء المجتمع والخضوع لمعاييره ؟ . لماذا لا تترك الحرية للمثليين يعبرون عن أنفسهم فى بلادنا كما حدث فى أمريكا والدول الأوروبية بل وحتى بعض الدول الشرقية ؟ . ألم تذكر الجنسية المثلية كأحد ألوان النعيم فى الجنة وذلك فى صورة "الولدان المخلدون" ؟ . هل يحاسب المثلى على ميوله الجنسية التى ليس له دخل فيها ؟ .. وهل يكون الحساب على مجرد الميول والرغبات أم على الممارسة ؟ . هل الجنسية المثلية مرض أم انحراف أخلاقى أم اختلاف عن الأعراف السائدة فى السلوك الجنسى , أم خيار جنسى شخصى ؟ . هل هناك علاج حقيقى للجنسية المثلية أم أن المجتمع يكلفنا مالا نطيق دون أن يقدم لنا الحلول والمساعدات ؟ 

كيف تحول الإستثناء إلى وباء ؟فلنبدأ القصة من البداية : يقول تعالى فى كتابه الكريم :" ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين * إنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل أنتم قوم مسرفون " (الأعراف 80-81)ورد فى تفسير ابن كثير ما يلى : " بعث الله لوطا إلى أهل سدوم وما حولها من القرى يدعوهم إلى الله عز وجل ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عما كانوا يرتكبونه من المآثم والمحارم والفواحش التى اخترعوها لم يسبقهم بها أحد من بنى آدم ولا غيرهم , وهو إتيان الذكور دون الإناث وهذا شئ لم يكن بنو آدم تعهده ولا تألفه ولا يخطر ببالهم حتى صنع ذلك أهل سدوم ... قال عمروبن دينار فى قوله "ما سبقكم بها من أحد من العالمين" قال ما نزا ذكر على ذكر حتى كان قوم لوط , وقال الوليد بن عبدالملك الخليفة الأموى بانى جامع دمشق : لولا أن الله عز وجل قص علينا خبر قوم لوط ما ظننت أن ذكرا يعلو ذكرا ولهذا قال لهم لوط عليه السلام "أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين * إنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء " , أى عدلتم عن النساء وما خلق لكم ربكم منهن إلى الرجال وهذا إسراف منكم وجهل لأنه وضع الشئ فى غير محله ولهذا قال لهم فى الآية الأخرى قال "هؤلاء بناتى إن كنتم فاعلين" فأرشدهم إلى نسائهم فاعتذروا إليه بأنهم لا يشتهونهن " قالوا لقد علمت مالنا فى بناتك من حق وإنك لتعلم ما نريد " أى لقد علمت أنه لا إرب لنا فى النساء ولا إرادة وإنك لتعلم مرادنا من أضيافك , وذكر المفسرون أن الرجال كانوا قد استغنى بعضهم ببعض وكذلك نساؤهم كن قد استغنين بعضهن ببعض أيضا ". 

 ونفهم من هذه الآيات سبق قوم لوط إلى هذا السلوك وأنه لم يكن سلوكا فرديا لديهم بل كان ظاهرة جماعية , والظاهرة لا تعنى الحصر أى أنه لا يستطيع أحد أن يقول بأن العلاقات الجنسية فى قوم لوط كانت مثلية على الإطلاق وأن العلاقات الغيرية قد توقفت تماما وإلا لما تناسلوا . وقوله تعالى "ما سبقكم بها من أحد من العالمين" قد تفهم على أن ظاهرة الجنسية المثلية لم تكن موجودة قبل قوم لوط , او أنها كانت موجودة ولكن الحياء العام فى ذلك الوقت كان يمنع التصريح بها وبذلك تظل حبيسة القلوب أو الأماكن المغلقة وهذا يجعلها فى حدود الإستثناءات الفردية , أو أنها كانت موجودة ولكن لم تكن ظاهرة اجتماعية بهذا الحجم الذى ظهر فى قوم لوط , أو أنها كانت موجودة ولكن مستنكرة ومنبوذة وأن قوم لوط أعطوها قبولا وتصريحا فى الممارسة فتفشت وانتشرت بشكل وبائى جماعى بحيث تبقى العلاقة الجنسية الغيرية هى الإستثناء .وقد ساد العرف فى قوم لوط بالممارسة المثلية وهذا يتضح فى استنكارهم لكلام لوط عليه السلام واعتباره غريبا عليهم وعلى أعرافهم بل ونبذهم له : "وما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون"(الأعراف 82) وواضح أن وباء الجنسية المثلية كان قد تفشى فى قوم لوط بشكل لم يعد يجدى معه علاج أو إصلاح , وأن هذا السلوك مضاد للفطرة ومضاد لطبيعة الحياة لذلك حدث استئصال لقوم لوط بعقاب إلهى كما ورد فى الآيتين التاليتين :"فأنجيناه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين * وأمطرنا عليهم مطرا فانظر كيف كان عاقبة المجرمين " (الأعراف 83-84) .وواضح من الآية أن امرأة لوط لم تكن على عقيدته بل كانت تنتمى إلى عقيدة وعرف من هلكوا , ولم يصرح القرآن إن كانت تمارس ما يمارسون أم لا , ولهذا نقف عند ما تعطيه الآيات من معان دون تجاوز , وهذا من أدب الإسلام حتى مع الهالكين .

 وقوله "وأمطرنا عليهم مطرا" مفسر بقوله "وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود مسومة عند ربك وما هي من الظالمين ببعيد" , وقد جرم الله هذا الفعل جل وعلا فقال "فانظر كيف كان عاقبة المجرمين" . وقد ذهب الإمام أبو حنيفة رحمه الله إلى أن اللائط يلقى من شاهق ويتبع بالحجارة كما فعل بقوم لوط و وذهب آخرون من العلماء إلى أنه يرجم سواء كان محصنا أو غير محصن وهو أحد قولى الشافعى رحمه الله والحجة ما رواه الإمام أحمد وأبو داوود والترمذى وابن ماجه من حديث الدراوردى عن عمرو بن أبى عمر عن عكرمة عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به" . وقال آخرون هو كالزانى فإن كان محصنا رجم , وإن لم يكن محصنا جلد مائة جلدة وهو القول الآخر للشافعى (تفسير ابن كثير صفحة 240-241, الجزء الثانى , دار المعرفة بيروت ).

  ومن الخطأ نسبة هذا الفعل إلى اسم النبى لوط فنقول مثلا "فلان لوطى" , وإنما نقول كما قال الرسول محمد صلى الله عليه وسلم " يعمل عمل قوم لوط " , ومن هنا لا يجوز أيضا ربط كلمة "السحاق" بالنبى إسحاق عليه السلام فليس هناك مبرر لغوى أو اصطلاحى أو تاريخى لذلك , فالمعنى اللغوى للفظ سحاق هو البعد , واصطلاحا يعنى البعد عن السواء والبعد عن الفطرة السليمة والبعد عن العرف الصحيح . ولم يعرف فى التاريخ أى ارتباط بين السحاق والمجتمع الذى عاش فيه النبى إسحاق , وأى ربط لهذا السلوك بالنبى إسحاق عليه السلام يصدر إما عن جهل لغوى وتاريخى أو عن سوء نية بقصد ربط تلك الظواهر الشاذة بأسماء الأنبياء تمهيدا للطعن فيهم فى مرحلة تالية أو فى جولة لاحقة .



وقصة قوم لوط تعطى درسا مهما , وهو أن القبول الإجتماعى يوسع دائرة الجنسية المثلية ويفتح لها الطريق , ويشجع من لديه بعض الميول الكامنة أن يفصح عنها ويضاعفها , وهذا يؤدى إلى تنشيطها فى طرف آخر مقابل سيتعامل معه , وهكذا تسرى المثلية كالنار فى الهشيم حين لا تجد حواجز تحدها . وإذا كانت هناك نسبة من المثليين مدفوعين برغبات تعود إلى عوامل بيولوجية , فإن هذه النسبة تتضاعف حين يفسح لها المجال للظهور المفاخر والمتباهى فى المجتمع بدلا من أن تحاصر كأى انحراف مرضى أو خلقى فى حيز ضيق لحين تهذيبها أو تعديلها .

ويبدو أن ما فعله قوم لوط يتكرر فى هذا الزمن حيث تبذل جهودا هائلة لجعل الجنسية المثلية سلوكا مقبولا على المستوى الفردى والجماعى , بل قد يتجاوز بعضهم مسألة القبول إلى مسألة الفخر والخروج فى مظاهرات علنية تفخر بهذا السلوك . والنتيجة المتوقعة لذلك هو أن تتفشى الرغبات المثلية الكامنة وتتوسع وتتحول إلى ممارسات مثلية يفخر بها صاحبها ويدعو إليها فتزيد مساحة الجنسية المثلية يوما بعد يوم حتى نصل إلى ظاهرة قوم لوط حيث يستغنى الرجال بالرجال وتستغنى النساء بالنساء . وربما يقول بعضهم : ولم لا إذا كانت هذه هى خيارات الناس وتفضيلاتهم ؟ .. ويقول آخر : ولماذا لا تتغير الأعراف والتقاليد فتصبح الخيارات الجنسية كلها مقبولة على أنها تنويعات فى السلوك الجنسى لا صلة لها بالدين أو بالأخلاق ؟وقد يروج البعض لمقولة بأن المثليين مثلهم مثل الغيرين لهم حياتهم التى يعيشونها بطريقتهم , وأنهم لو لم يتقبلوا مثليتهم فإنهم سيعيشون فى عذاب مستمر .. وأن الحل الوحيد لهم هو أن يتقبلوا سلوكهم الجنسى المثلى ويمارسوه , وأن يسعدوا به ولا يخجلوا منه أو يداروه , فهم قد وجدوا أنفسهم هكذا ولا يملكون تغيير خياراتهم الجنسية . هذه كلها قفزات خاطئة من الناحية العلمية الموضوعية بعيدا عن المداهنات الإجتماعية والسياسية , فالمثليون ليسوا سعداء حتى وهم يمارسون مثليتهم , وهناك فشل كبير فى علاقاتهم , ففى كتاب "التنظيم الإجتماعى للجنس " يتضح أن متوسط عدد الشركاء الجنسيين طوال العمر للأشخاص المثليين 50 شريكا بينما هو للغيريين 4 شركاء فقط , ونسبة الملتزمين بشريك واحد فى المثليين أقل من 2% وهى فى الغيريين 83,5 %, ونسبة الجنس الشرجى فى المثليين 65% وفى الغيريين 9% . ومن المعروف والمؤكد أن هناك علاقة قوية بين زيادة عدد الشركاء الجنسيين وبين الإصابة بالإيدز وسائر الأمراض الجنسية , وهذا أيضا قائم فى العلاقات الشرجية . يضاف إلى ذلك كثرة فشل علاقات المثليين وعذاباتهم حتى فى المجتمعات التى اعترفت بوجودهم ومنحتهم القبول بكل درجاته بل منحتهم الفخر فى كثير من الأحيان . 

المثليون بين التثبيت والنكوص :والجنسية المثلية فى التفسيرات الدينامية هى تثبيت أو نكوص عند مراحل بدائية فى النمو النفسى حيث يحدث تثبيت على المرحلة الشرجية أو الفمية , أو يحدث فشل فى تجاوز المرحلة الأوديبية , وبهذا يصبح السلوك الجنسي المثلى هو المقابل للعصاب –في رأى فرويد- ولكن الفرق بينهما أن العصاب يحتوى كبتا أما الجنسية المثلية ففيها إطلاق للغريزة , ولكن كلاهما يشترك فى التثبيت أو النكوص أو عدم النضج . والجنسية المثلية من منظور علاقاتى هى نفى للآخر فالمثلى لا يبحث عن آخر يتكامل معه وإنما يبحث عن ذكورته المفقودة فى ذكر مثله أو تبحث عن أنوثتها المفقودة فى أنثى مثلها , وهذا يفسر فشل المثليين فى الوصول إلى علاقات مشبعة وثابتة لأنهم يجرون وراء سراب , أو كمن يشربون من ماء البحر . وتقول الباحثة "إليزابيث موبرلى" أن سبب عدم مشروعية العلاقات المثلية نابع من كونها فى واقع الأمر علاقة جنسية بين أطفال" . وهذا المفهوم يؤكد عدم نضج العلاقات المثلية وعدم قدرتها على منح السعادة أو الطمأنينة لأصحابها حتى فى حالة استبعاد المعايير الإجتماعية أو الأخلاقية أو الدينية . والعلاقة المثلية علاقة غير منتجة فهى أقرب للإستمتاع الترفيهى منها إلى علاقات البناء النفسى والأسرى والإجتماعى . وهى علاقة أقرب للتملك منها للحب , وليس مستغربا بناءا على ذلك وغيره أن تكثر فى المثليين الإضطرابات النفسية وتزيد معدلات الإنتحار. ومتصل الجمال – الحب – الجنس عند المثلى ليس مكتملا ولا متكاملا , فالمثلى يعشق الصور الجميلة فى نظره , والشكل لديه هو الأهم , وهو لا يعرف الحب بمعناه السليم وإنما يعرف الإفتتان , وهو لا يمارس الجنس مع آخر مختلف وإنما يمارسه مع نفسه أو صورة نفسه المثالية . ومما يؤكد فشل الحل المثلى أن 67% من المثليين يتحولون إلى السلوك الغيرى فى مراحل نضجهم والتى تختلف من شخص لآخر , وأن 75% ممن تزوجوا من جنس غيرى عبروا عن ارتياحهم للعلاقة الغيرية فى الزواج . وبعضهم يتزوج وهو لا يحمل أى رغبة حسية فى الشريك الزواجى من الجنس الآخر ولكنه يتزوج بدافع تكوين أسرة وإنجاب أطفال , وشيئا فشيئا تتكون لديه مشاعر معقولة تجاه الجنس الآخر مع تكرار العلاقة الزوجية فى جو مفعم بالسكينة والمودة والرحمة . 

المرغوبية والمشروعية :وكون المثلى يشعر بميل لا إرادى تجاه مثله لا يعنى كون هذا طبيعى , وكونه يشعر بالرغبة فى هذا الشئ والإرتياح لفعله لا يعطيه مشروعية البقاء , فبالقياس نجد أن المدمن يحب المخدرات والمسكرات ويسعد بتعاطيها وربما لايسعد بشئ غيرها , والمقامر يجد سعادته فى المقامرة , ومع هذا لم يقل أحد بالتسليم لرغبة المدمن أو رغبة المقامر لا لشئ إلا لأن هذه الأشياء حتى وإن كانت ممتعة إلا أنها ضد قوانين الحياة وفطرتها , فهى تهدم ولا تبنى وتعزل ولا تتكامل , وهذا نفسه هو شأن الجنسية المثلية . وليسوا فقط المثليين هم المطالبين بضبط غرائزهم وتهذيبها بل كل الناس مطالبين بذلك فالجميع لديهم غرائز جنس وعدوان بدرجات وأشكال متباينة , والحياة السليمة فى أى مجتمع تستدعى تنظيم وتهذيب هذه الغرائز بما يخدم حياة الجميع وسعادتهم . 

بين الوصم والتباهى :والخطأ يحدث حين يتم وصم المثليين واضطهادهم ونبذهم كما حدث فى أمريكا حين أصدر الرئيس الأمريكى إيزنهاور مرسوما سنة 1953 بحرمان أى مثلى أو مثلية من الحصول على وظيفة فيدرالية كما بدأ البوليس يتعقب المثليين ويتحرش بهم وأغار على أحد حاناتهم فى نيويورك عام 1969 م واندلعت مظاهرات عنيفة عندما بدأ المثليون فى الرد على هذه المعاملات القاسية , ومنذ ذلك التاريخ بدأ ظهور الجمعيات التى تدافع عن حقوق المثليين , وكأى جمعيات تنشأ فى مثل تلك الظروف الساخنة بالغت تلك الجمعيات فى مطالبها وضغوطها على المجتمع الأمريكى وعلى المجتمع الدولى (بحلول سنة 1973 بلغ عدد جمعيات الضغط السياسي للمثليين 800 جمعية وفى سنة 1990 تجاوز الرقم عدة آلاف كلها تضغط للحصول على مكاسب للمثليين) , وهذا جعلهم يأخذون موقفا مضادا من المجتمع , وهكذا أصبحت المعركة بين المثليين ومجتمعهم بدلا من أن تصبح بين الجميع وبين الشذوذ أو المرض أو الإنحراف الحادث . فمثلا لا يصح وصم مريض الإيدز أو استبعاده أو اضطهاده , ولكننا نوجه الجهد للإيدز نفسه لمقاومته , ولا يصح أيضا أن نحتفى بالإيدز ونقرر التعايش معه والفخر به , وكذلك الحال فى الإدمان والقمار .

ويقول الدكتور أوسم وصفى فى كتابه الرائع "شفاء الحب" : "هذا بالطبع رد فعل مفهوم لكل سلوك مجتمعى يتميز بالوصم والتمييز , فالمشكلة تنبع أساسا من ميلنا البشرى للوصم والعزل والتمييز . فالوصم هو نوع من أنواع الخلط بين الإنسان ومرضه أو سلوكه , والنتيجة الطبيعية لهذا الخلط هى العزل والتمييز حيث يقوم المجتمع –خوفا من المرض- بمحاربة المريض بدلا من محاربة المرض , وكرد فعل للوصم والعزل والتمييز تتشكل حركات الدفاع والتحرير وتمارس ما يمكن أن نسميه ب "الوصم المضاد" لكونه يتميز أيضا بالخلط بين المريض والمرض , ومن أجل الحفاظ على حقوق المريض يدعو إلى الحفاظ على حقوق المرض" .

وقد استطاعت جماعات ضغط المثليين فى حذف الجنسية المثلية من الدليل التشخيصى والإحصائى للأمراض النفسية(النسخة الثالثة) ولم يكن ذلك عن قناعة علمية وإنما بسب ضغوط إعلامية وسياسية جبارة , وقد عبر عن ذلك الدكتور باير فى مقال بعنوان "سياسات التشخيص" سنة 1981بقوله :" لم تكن هذه التغيرات (يقصد حذف الجنسية المثلية من قائمة الأمراض واعتبارها اختيارا شخصيا) نابعة من استيعاب الحقائق العلمية التى يمليها المنطق , وإنما على العكس كان هذا العمل مدفوعا بما كان يمليه المزاج الأيديولوجى العام فى تلك الحقبة من التاريخ" . وقد ذكرت لجنة الصحة العامة بأكاديمية نيويورك الطبية فى تقريرها عن الجنسية المثلية ما يلى : "الجنسية المثلية هى بالفعل مرض .. والمثلى إنسان مضطرب وجدانيا بحيث لم تتطور لديه القدرة الطبيعية لتكوين علاقات مشبعة مع الجنس الآخر ... وبعض المثليين قد ذهبوا إلى ما هو أبعد من مجرد الدفاع عن المثلية وهم الآن يحتجون قائلين أن المثلية هى أسلوب محبب ونبيل ومفضل للحياة" (موضوع السياسات الجنسية والمنطق العلمى , فى مجلة التاريخ النفسى 10 , رقم 5 عام 1992 م صفحة 102 , نقلا عن كتاب شفاء الحب – دكتور أوسم وصفى ) .

ولقد كان لحذف الجنسية المثلية من التشخيصات المرضية أثر سلبى فقد توقفت الجهود العلمية لمساعدة المثليين فى مواجهة مشكلاتهم الناشئة عن توجهاتهم المثلية , ولم يبق متاحا للأطباء غير مساعدتهم لتقبل مثليتهم ومساعدتهم على التكيف معها وإقناع المجتمع بقبول السلوك الجنسى المثلى . وهذا وإن كان مقبولا فى الغرب بنسب مختلفة إلا أنه غير مقبول فى المجتمعات العربية والإسلامية والشرقية بوجه عام والتى لديها قناعات ومعتقدات دينية فى اليهودية والمسيحية والإسلام تحرم السلوك الجنسى المثلى , وليس من المتوقع محو هذه المعتقدات لطمأنة المثليين (الذين لا يزيدون عن 3% فى المجتمع ) . وقد استراح الأطباء لهذا الأمر لما يعانونه من مصاعب في التعامل مع المثليين فى الموقف العلاجى , ولما يواجهونه من فشل فى هذا المجال , ولكن الواقع يؤكد بأن عدد كبير من المثليين يعانون من مثليتهم بشكل شخصى بعيدا عن أى ضغوط اجتماعية ويبحثون عن علاج لها لدى الأطباء فلا يجدون من يقدم المساعدة , نظرا لخلو المراجع الطبية الغربية من تقنيات علاجية لهذا الأمر ونظرا لاعتياد الأطباء فى بلادنا على التطفل على تلك المراجع كمصادر لعملهم دون إبداع حقيقى يضع احتياجات مرضانا بثقافتهم وتوجهاتهم واحتياجاتهم المختلفة فى الحسبان . ومن المعروف طبيا أن المثليين نوعين : نوع متوافق مع مثليته ومتقبل له Ego syntonic وهذا لا دخل للأطباء به فهو اصلا لا يأتى إليهم ولا يسألهم مساعدة , ونوع آخر رافض لمثليته ومتألم منها Ego dystonic وهو يأتى بحثا عن المساعدة ويكون فى حالة ألم شديد بسبب جنسيته المثلية حتى ولو كانت على مستوى المشاعر الداخلية فهو يشعر أنه يحمل بداخله شعورا مقززا لا يحتمله وبعضهم يصل ألمه ورفضه إلى التفكير فى الإنتحار , وهذا النوع يحتاج للمساعدة بشدة لأنه يعانى معاناة شديدة . 

حقيقة "الولدان المخلدون" :وبخصوص النعيم فى الجنة وهل فيها تنعم مثلى أم لا , فإن أمر الجنة هو كما ورد فى الآيات والأحاديث "فيها مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر" , فالله وحده أعلم كيف يسعد أولياءه وأحباءه , ولا يجوز أن نضع معاييرنا الدنيوية فى الجنة , أو نضع تفضيلات قلة من الناس فى هذا الأمر (ملحوظة : المثليون يشكلون 2,8% من الذكور و 1,4% من الإناث ) .

وهناك بعض الناس ينحرفون بتفكيرهم فى الحديث عن "الغلمان المخلدون" فى الجنة بأنهم ينتمون إلى الجنسية المثلية بزعمهم , ولا يوجد نص مقدس فى أى دين يؤيد هذا الرأى الشاذ , وكل ما يفهم من وظيفة "الغلمان المخلدون" أنهم خدم فى الجنة . ويزيد بعضهم على ذلك بأن العرب مشهورين منذ القدم بعمل قوم لوط أكثر من غيرهم , ولهذا كان الوعد لهم ب "الغلمان المخلدون" حافزا لهم على الإيمان والجهاد للوصول إلى الجنة حيث الولدان المخلدون . وهذا استدلال فاسد , فلم يثبت علميا أن جنس معين لديه ميول جنسية مثلية أكثر من غيره , وإن كانت الظروف الإجتماعية تشكل السلوك الجنسى فى اتجاهات معينة , ولم يؤثر عن أحد من الصحابة تفسير "الغلمان المخلدون" بهذا المعنى , ولم يؤثر عن أحد من المؤمنين تمنيه لهذا الأمر بهذا الشكل فى الجنة .

عشق الصور وتعلق القلوب:والآيات القرآنية والأحاديث النبوية والتنظيمات الإجتماعية فى موضوع الجنسية المثلية تهدف إلى الضبط والتهذيب للغرائز وانحرافاتها , وهذا يقلل من فرص تضخم المشاعر والممارسات المثلية , ولو كانت غير موجودة فلنا أن نتوقع انتشارا وبائيا مثل ما حدث لقوم لوط . وفى التراث الإسلامى الكثير مما كتب فى عشق الصور وتأثير ذلك على القلب ثم بيان كيفية الخلاص من عشق الصور حيث أنها تشغل خط الحب الرئيسى المخصص لحب الله سبحانه وتعالى , ويمكن مراجعة ما كتبه أبو حامد الغزالى وابن القيم فى هذا الأمر وعلاقته بأمراض القلوب . والمثليون من أكثر الناس ابتلاءا بعشق الصور , فهم بصريون فى الأغلب ويتعلقون بالأشخاص ذوى الوسامة الذكورية أو النسائية (حسب جنس العاشق) , وهذا التعلق البصرى السطحى يجعل المثلى متقلبا ومتعددا فى علاقاته العاطفية والجنسية لأن الأشكال تتعدد . وكان عشق المردان نقيصة وعيبا كتب عنه الفقهاء والحكماء وأوردوا الكثير من وسائل تجنبه وعلاجه حتى لا يستحكم بالقلب فيبعده عن محبة الله والتعلق به .

لماذا وكيف ؟ :ويتساءل بعض المثليين : وما ذنبنا نحن فى وجود غرائز فى اتجاهات مختلفة عن بقية الناس , وكيف نصرف غرائزنا الجنسية فى اتجاهات يرغبها المجتمع ولا نرغبها ؟ .. وهذا يعيدنا إلى التسليم بحكمة الله وعدله فى كل ما خلق وأبدع , فلكل خلق وظيفة وغاية قد نفهمها وقد لا نفهمها , وقياسا على هذا نستطيع استيعاب وقبول خلق الله تعالى لأشخاص معوقين جسديا أو ذهنيا , وللحشرات والوحوش , والزلازل والبراكين والبرق والرعد , وكلها أشياء قد تبدو فى ظاهرها بلا جدوى بل قد تبدو ضارة ولكنها حكمة الله فى خلق الشئ ونقيضه , وفى بيان القواعد والإستثناءات , وكلها تدخل فى باب الإبتلاء " ونبلوكم بالشر والخير فتنة" , فالأمر لا يقاس بالحياة الدنيا , وإلا اضطرب الفهم , ولكنه يقاس بالوجود الممتد فى الدنيا والآخرة وهذا المعنى يتضح بقوة فى سورة الكهف حيث تبدو لنا بعض الأشياء فى الظاهر بصورة ولكن يكمن وراءها فى الخلفية أشياء أخرى لا نعلمها ولكن يعلمها الله , وهنا يصح القول بأن الجنسية المثلية لمن وجدها فى نفسه ولم ينشطها أو يستحثها هى ابتلاء , والله يمنح الثواب على الصبر على الإبتلاء , ويقدر كل أمر بقدره , ولا شك فى عدله ورحمته , فهو الخالق وله الحق أن يبتلى من شاء بما شاء ويحاسب كل شخص على ما فعل فى ابتلائه . وليست فقط المثلية هى الإبتلاء فالفقر ابتلاء والغنى ابتلاء والنجاح ابتلاء والفشل ابتلاء والصحة ابتلاء والمرض ابتلاء . 

وقد يقول قائل : ولماذا تحرم الجنسية المثلية ؟.. أليست خيارا فى الممارسة الجنسية ؟ وما ذنب هؤلاء الذين لا يجدون رغبة فى جنس معين ؟ ولماذا يجبرون على علاقة جنسية مع جنس يشعرون تجاهه بالبرود وأحيانا بالقرف والإشمئزاز ؟ ...ولماذا تنشا مشاعر الجنسية المثلية إذا كانت ضد قوانين الإنجاب والتكاثر وضد تكوين الأسرة ؟ .. والجواب هو أن التحريم لا يقوم على المنطق البشرى وإنما يقوم على حكمة وإرادة إلهية , وهذا كان هو الدرس الكونى الأول حين أباح الله لآدم التنعم بكل شئ فى الجنة إلا شجرة واحدة حرمها عليه , وقد نسى آدم عهده مع الله , وبدافع الفضول والرغبة فى التملك والخلود وبوسوسة من الشيطان ذهب وأكل من الشجرة المحرمة , وربما قال له عقله : وما الفرق بين هذه الشجرة وسائر الأشجار ؟ ... ولماذا تحرم عليّ هذه الشجرة ؟؟, ولهذا أكل منها فبدت له سوءته وخرج من الجنة وعلمه الله كلمات ليتوب بها من ذنبه حتى لا تلتصق به الخطيئة وتيئسه من العودة إلى طريق الهداية . هذا الدرس الكونى الأول يعطى معنى للحلال والحرام يتجاوز المنطق البشرى , فالخالق هو الذى يحرم ويحلل لحكمة يعلمها والمخلوقين يقولون : سمعنا وأطعنا , ولكن هناك بعض المخلوقين يقولون سمعنا وعصينا , والجزاء يترتب فى النهاية على هذه القدرة على التعامل مع القوانين الإلهية .

وإذا كانت وسائل المساعدة للمثليين قاصرة فى الوقت الحالى فهذا ليس مبررا لاعتبار المثلية عصية على العلاج فكثير من الإضطرابات والأمراض تأخر اكتشاف علاجها لقرون , وإذا كان الغربيون قد حذفوا الجنسية المثلية من قائمة الإضطرابات النفسية فإن هذا ليس قائما فى المجتمعات العربية والإسلامية حيث يعيش الشخص صراعا مريرا مع قيمه الدينية حين يمارس مثليته أو حتى يستشعرها , والشخص فى هذا الوضع يمر بابتلاء حقيقى ويحتاج للمساعدة كى يسيطر على تلك الرغبة التى تسكن جوانحه وهويرفضها أو يتألم منها ولا يستطيع أن يجاهر مجتمعه بها .

ومن المسلم به شرعا أن الإنسان مسئول عن ممارساته , أما ما يحدث على مستوى فكره ومشاعره مما لاسيطرة له عليه فهو فى عفو الله والله لا يكلف نفسا إلا وسعها , ولا يجوز للمثلى أن يقول بأننى لا أستطيع التحكم , فالتحكم فى الغرائز مطالب به المثلى والغيرى على السواء . وأى جهد يبذله المثلى ليعود أو يقترب من الفطرة السليمة هو فى المفهوم الدينى مجاهدة للنفس يحتسب أجرها عند الله , وأى ألم يتألمه المثلى بسبب رغبة فى داخله لا يعرف مصدرها وهى فى ذات الوقت تؤلمه أو تشعره بالخزى أو العار هى أيضا فى ميزان حسناته حين يضبطها ويسيطر عليها . والجنس فى النهاية طاقة تأخذ مسارها حسب الظروف المحيطة بها ويمكن مع الصبر والمثابرة أن تتحول من اتجاهاتها المنحرفة إلى اتجاهات سوية وإيجابية إذا صدقت النية وصح العزم . والإستسلام للمثلية ليس حلا فمن المعروف إحصائيا أن نسبة الإضطرابات النفسية تكون أعلى فى المثليين وأيضا نسب الإنتحار ونسب الفشل فى العلاقات , وهذا يحدث حتى فى المجتمعات التى أقرت بالمثلية وقبلتها بل وفاخرت بوجودها .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق