بين الوصم والتباهى :والخطأ يحدث حين يتم وصم المثليين واضطهادهم ونبذهم كما حدث فى أمريكا حين أصدر الرئيس الأمريكى إيزنهاور مرسوما سنة 1953 بحرمان أى مثلى أو مثلية من الحصول على وظيفة فيدرالية كما بدأ البوليس يتعقب المثليين ويتحرش بهم وأغار على أحد حاناتهم فى نيويورك عام 1969 م واندلعت مظاهرات عنيفة عندما بدأ المثليون فى الرد على هذه المعاملات القاسية , ومنذ ذلك التاريخ بدأ ظهور الجمعيات التى تدافع عن حقوق المثليين , وكأى جمعيات تنشأ فى مثل تلك الظروف الساخنة بالغت تلك الجمعيات فى مطالبها وضغوطها على المجتمع الأمريكى وعلى المجتمع الدولى (بحلول سنة 1973 بلغ عدد جمعيات الضغط السياسي للمثليين 800 جمعية وفى سنة 1990 تجاوز الرقم عدة آلاف كلها تضغط للحصول على مكاسب للمثليين) , وهذا جعلهم يأخذون موقفا مضادا من المجتمع , وهكذا أصبحت المعركة بين المثليين ومجتمعهم بدلا من أن تصبح بين الجميع وبين الشذوذ أو المرض أو الإنحراف الحادث . فمثلا لا يصح وصم مريض الإيدز أو استبعاده أو اضطهاده , ولكننا نوجه الجهد للإيدز نفسه لمقاومته , ولا يصح أيضا أن نحتفى بالإيدز ونقرر التعايش معه والفخر به , وكذلك الحال فى الإدمان والقمار .
ويقول الدكتور أوسم وصفى فى كتابه الرائع "شفاء الحب" : "هذا بالطبع رد فعل مفهوم لكل سلوك مجتمعى يتميز بالوصم والتمييز , فالمشكلة تنبع أساسا من ميلنا البشرى للوصم والعزل والتمييز . فالوصم هو نوع من أنواع الخلط بين الإنسان ومرضه أو سلوكه , والنتيجة الطبيعية لهذا الخلط هى العزل والتمييز حيث يقوم المجتمع –خوفا من المرض- بمحاربة المريض بدلا من محاربة المرض , وكرد فعل للوصم والعزل والتمييز تتشكل حركات الدفاع والتحرير وتمارس ما يمكن أن نسميه ب "الوصم المضاد" لكونه يتميز أيضا بالخلط بين المريض والمرض , ومن أجل الحفاظ على حقوق المريض يدعو إلى الحفاظ على حقوق المرض" .
وقد استطاعت جماعات ضغط المثليين فى حذف الجنسية المثلية من الدليل التشخيصى والإحصائى للأمراض النفسية(النسخة الثالثة) ولم يكن ذلك عن قناعة علمية وإنما بسب ضغوط إعلامية وسياسية جبارة , وقد عبر عن ذلك الدكتور باير فى مقال بعنوان "سياسات التشخيص" سنة 1981بقوله :" لم تكن هذه التغيرات (يقصد حذف الجنسية المثلية من قائمة الأمراض واعتبارها اختيارا شخصيا) نابعة من استيعاب الحقائق العلمية التى يمليها المنطق , وإنما على العكس كان هذا العمل مدفوعا بما كان يمليه المزاج الأيديولوجى العام فى تلك الحقبة من التاريخ" . وقد ذكرت لجنة الصحة العامة بأكاديمية نيويورك الطبية فى تقريرها عن الجنسية المثلية ما يلى : "الجنسية المثلية هى بالفعل مرض .. والمثلى إنسان مضطرب وجدانيا بحيث لم تتطور لديه القدرة الطبيعية لتكوين علاقات مشبعة مع الجنس الآخر ... وبعض المثليين قد ذهبوا إلى ما هو أبعد من مجرد الدفاع عن المثلية وهم الآن يحتجون قائلين أن المثلية هى أسلوب محبب ونبيل ومفضل للحياة" (موضوع السياسات الجنسية والمنطق العلمى , فى مجلة التاريخ النفسى 10 , رقم 5 عام 1992 م صفحة 102 , نقلا عن كتاب شفاء الحب – دكتور أوسم وصفى ) .
ولقد كان لحذف الجنسية المثلية من التشخيصات المرضية أثر سلبى فقد توقفت الجهود العلمية لمساعدة المثليين فى مواجهة مشكلاتهم الناشئة عن توجهاتهم المثلية , ولم يبق متاحا للأطباء غير مساعدتهم لتقبل مثليتهم ومساعدتهم على التكيف معها وإقناع المجتمع بقبول السلوك الجنسى المثلى . وهذا وإن كان مقبولا فى الغرب بنسب مختلفة إلا أنه غير مقبول فى المجتمعات العربية والإسلامية والشرقية بوجه عام والتى لديها قناعات ومعتقدات دينية فى اليهودية والمسيحية والإسلام تحرم السلوك الجنسى المثلى , وليس من المتوقع محو هذه المعتقدات لطمأنة المثليين (الذين لا يزيدون عن 3% فى المجتمع ) . وقد استراح الأطباء لهذا الأمر لما يعانونه من مصاعب في التعامل مع المثليين فى الموقف العلاجى , ولما يواجهونه من فشل فى هذا المجال , ولكن الواقع يؤكد بأن عدد كبير من المثليين يعانون من مثليتهم بشكل شخصى بعيدا عن أى ضغوط اجتماعية ويبحثون عن علاج لها لدى الأطباء فلا يجدون من يقدم المساعدة , نظرا لخلو المراجع الطبية الغربية من تقنيات علاجية لهذا الأمر ونظرا لاعتياد الأطباء فى بلادنا على التطفل على تلك المراجع كمصادر لعملهم دون إبداع حقيقى يضع احتياجات مرضانا بثقافتهم وتوجهاتهم واحتياجاتهم المختلفة فى الحسبان . ومن المعروف طبيا أن المثليين نوعين : نوع متوافق مع مثليته ومتقبل له Ego syntonic وهذا لا دخل للأطباء به فهو اصلا لا يأتى إليهم ولا يسألهم مساعدة , ونوع آخر رافض لمثليته ومتألم منها Ego dystonic وهو يأتى بحثا عن المساعدة ويكون فى حالة ألم شديد بسبب جنسيته المثلية حتى ولو كانت على مستوى المشاعر الداخلية فهو يشعر أنه يحمل بداخله شعورا مقززا لا يحتمله وبعضهم يصل ألمه ورفضه إلى التفكير فى الإنتحار , وهذا النوع يحتاج للمساعدة بشدة لأنه يعانى معاناة شديدة .
حقيقة "الولدان المخلدون" :وبخصوص النعيم فى الجنة وهل فيها تنعم مثلى أم لا , فإن أمر الجنة هو كما ورد فى الآيات والأحاديث "فيها مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر" , فالله وحده أعلم كيف يسعد أولياءه وأحباءه , ولا يجوز أن نضع معاييرنا الدنيوية فى الجنة , أو نضع تفضيلات قلة من الناس فى هذا الأمر (ملحوظة : المثليون يشكلون 2,8% من الذكور و 1,4% من الإناث ) .
وهناك بعض الناس ينحرفون بتفكيرهم فى الحديث عن "الغلمان المخلدون" فى الجنة بأنهم ينتمون إلى الجنسية المثلية بزعمهم , ولا يوجد نص مقدس فى أى دين يؤيد هذا الرأى الشاذ , وكل ما يفهم من وظيفة "الغلمان المخلدون" أنهم خدم فى الجنة . ويزيد بعضهم على ذلك بأن العرب مشهورين منذ القدم بعمل قوم لوط أكثر من غيرهم , ولهذا كان الوعد لهم ب "الغلمان المخلدون" حافزا لهم على الإيمان والجهاد للوصول إلى الجنة حيث الولدان المخلدون . وهذا استدلال فاسد , فلم يثبت علميا أن جنس معين لديه ميول جنسية مثلية أكثر من غيره , وإن كانت الظروف الإجتماعية تشكل السلوك الجنسى فى اتجاهات معينة , ولم يؤثر عن أحد من الصحابة تفسير "الغلمان المخلدون" بهذا المعنى , ولم يؤثر عن أحد من المؤمنين تمنيه لهذا الأمر بهذا الشكل فى الجنة .
عشق الصور وتعلق القلوب:والآيات القرآنية والأحاديث النبوية والتنظيمات الإجتماعية فى موضوع الجنسية المثلية تهدف إلى الضبط والتهذيب للغرائز وانحرافاتها , وهذا يقلل من فرص تضخم المشاعر والممارسات المثلية , ولو كانت غير موجودة فلنا أن نتوقع انتشارا وبائيا مثل ما حدث لقوم لوط . وفى التراث الإسلامى الكثير مما كتب فى عشق الصور وتأثير ذلك على القلب ثم بيان كيفية الخلاص من عشق الصور حيث أنها تشغل خط الحب الرئيسى المخصص لحب الله سبحانه وتعالى , ويمكن مراجعة ما كتبه أبو حامد الغزالى وابن القيم فى هذا الأمر وعلاقته بأمراض القلوب . والمثليون من أكثر الناس ابتلاءا بعشق الصور , فهم بصريون فى الأغلب ويتعلقون بالأشخاص ذوى الوسامة الذكورية أو النسائية (حسب جنس العاشق) , وهذا التعلق البصرى السطحى يجعل المثلى متقلبا ومتعددا فى علاقاته العاطفية والجنسية لأن الأشكال تتعدد . وكان عشق المردان نقيصة وعيبا كتب عنه الفقهاء والحكماء وأوردوا الكثير من وسائل تجنبه وعلاجه حتى لا يستحكم بالقلب فيبعده عن محبة الله والتعلق به .
لماذا وكيف ؟ :ويتساءل بعض المثليين : وما ذنبنا نحن فى وجود غرائز فى اتجاهات مختلفة عن بقية الناس , وكيف نصرف غرائزنا الجنسية فى اتجاهات يرغبها المجتمع ولا نرغبها ؟ .. وهذا يعيدنا إلى التسليم بحكمة الله وعدله فى كل ما خلق وأبدع , فلكل خلق وظيفة وغاية قد نفهمها وقد لا نفهمها , وقياسا على هذا نستطيع استيعاب وقبول خلق الله تعالى لأشخاص معوقين جسديا أو ذهنيا , وللحشرات والوحوش , والزلازل والبراكين والبرق والرعد , وكلها أشياء قد تبدو فى ظاهرها بلا جدوى بل قد تبدو ضارة ولكنها حكمة الله فى خلق الشئ ونقيضه , وفى بيان القواعد والإستثناءات , وكلها تدخل فى باب الإبتلاء " ونبلوكم بالشر والخير فتنة" , فالأمر لا يقاس بالحياة الدنيا , وإلا اضطرب الفهم , ولكنه يقاس بالوجود الممتد فى الدنيا والآخرة وهذا المعنى يتضح بقوة فى سورة الكهف حيث تبدو لنا بعض الأشياء فى الظاهر بصورة ولكن يكمن وراءها فى الخلفية أشياء أخرى لا نعلمها ولكن يعلمها الله , وهنا يصح القول بأن الجنسية المثلية لمن وجدها فى نفسه ولم ينشطها أو يستحثها هى ابتلاء , والله يمنح الثواب على الصبر على الإبتلاء , ويقدر كل أمر بقدره , ولا شك فى عدله ورحمته , فهو الخالق وله الحق أن يبتلى من شاء بما شاء ويحاسب كل شخص على ما فعل فى ابتلائه . وليست فقط المثلية هى الإبتلاء فالفقر ابتلاء والغنى ابتلاء والنجاح ابتلاء والفشل ابتلاء والصحة ابتلاء والمرض ابتلاء .
وقد يقول قائل : ولماذا تحرم الجنسية المثلية ؟.. أليست خيارا فى الممارسة الجنسية ؟ وما ذنب هؤلاء الذين لا يجدون رغبة فى جنس معين ؟ ولماذا يجبرون على علاقة جنسية مع جنس يشعرون تجاهه بالبرود وأحيانا بالقرف والإشمئزاز ؟ ...ولماذا تنشا مشاعر الجنسية المثلية إذا كانت ضد قوانين الإنجاب والتكاثر وضد تكوين الأسرة ؟ .. والجواب هو أن التحريم لا يقوم على المنطق البشرى وإنما يقوم على حكمة وإرادة إلهية , وهذا كان هو الدرس الكونى الأول حين أباح الله لآدم التنعم بكل شئ فى الجنة إلا شجرة واحدة حرمها عليه , وقد نسى آدم عهده مع الله , وبدافع الفضول والرغبة فى التملك والخلود وبوسوسة من الشيطان ذهب وأكل من الشجرة المحرمة , وربما قال له عقله : وما الفرق بين هذه الشجرة وسائر الأشجار ؟ ... ولماذا تحرم عليّ هذه الشجرة ؟؟, ولهذا أكل منها فبدت له سوءته وخرج من الجنة وعلمه الله كلمات ليتوب بها من ذنبه حتى لا تلتصق به الخطيئة وتيئسه من العودة إلى طريق الهداية . هذا الدرس الكونى الأول يعطى معنى للحلال والحرام يتجاوز المنطق البشرى , فالخالق هو الذى يحرم ويحلل لحكمة يعلمها والمخلوقين يقولون : سمعنا وأطعنا , ولكن هناك بعض المخلوقين يقولون سمعنا وعصينا , والجزاء يترتب فى النهاية على هذه القدرة على التعامل مع القوانين الإلهية .
وإذا كانت وسائل المساعدة للمثليين قاصرة فى الوقت الحالى فهذا ليس مبررا لاعتبار المثلية عصية على العلاج فكثير من الإضطرابات والأمراض تأخر اكتشاف علاجها لقرون , وإذا كان الغربيون قد حذفوا الجنسية المثلية من قائمة الإضطرابات النفسية فإن هذا ليس قائما فى المجتمعات العربية والإسلامية حيث يعيش الشخص صراعا مريرا مع قيمه الدينية حين يمارس مثليته أو حتى يستشعرها , والشخص فى هذا الوضع يمر بابتلاء حقيقى ويحتاج للمساعدة كى يسيطر على تلك الرغبة التى تسكن جوانحه وهويرفضها أو يتألم منها ولا يستطيع أن يجاهر مجتمعه بها .
ومن المسلم به شرعا أن الإنسان مسئول عن ممارساته , أما ما يحدث على مستوى فكره ومشاعره مما لاسيطرة له عليه فهو فى عفو الله والله لا يكلف نفسا إلا وسعها , ولا يجوز للمثلى أن يقول بأننى لا أستطيع التحكم , فالتحكم فى الغرائز مطالب به المثلى والغيرى على السواء . وأى جهد يبذله المثلى ليعود أو يقترب من الفطرة السليمة هو فى المفهوم الدينى مجاهدة للنفس يحتسب أجرها عند الله , وأى ألم يتألمه المثلى بسبب رغبة فى داخله لا يعرف مصدرها وهى فى ذات الوقت تؤلمه أو تشعره بالخزى أو العار هى أيضا فى ميزان حسناته حين يضبطها ويسيطر عليها . والجنس فى النهاية طاقة تأخذ مسارها حسب الظروف المحيطة بها ويمكن مع الصبر والمثابرة أن تتحول من اتجاهاتها المنحرفة إلى اتجاهات سوية وإيجابية إذا صدقت النية وصح العزم . والإستسلام للمثلية ليس حلا فمن المعروف إحصائيا أن نسبة الإضطرابات النفسية تكون أعلى فى المثليين وأيضا نسب الإنتحار ونسب الفشل فى العلاقات , وهذا يحدث حتى فى المجتمعات التى أقرت بالمثلية وقبلتها بل وفاخرت بوجودها .